أنا وجوجل - الجزء الثاني مقابلة وائل غنيم مع جوجل
"ما هو سبب زيارتك للمملكة المتحدة؟"، بنبرة جادة سألني موظف جوازات مطار هيثرو بلندن في يونيو ٢٠٠٨ بعد أيام قليلة من حصولي على تأشيرة الدخول لبريطانيا والتي أزورها لأول مرة في حياتي لإجراء مقابلات التوظيف التي سيُقَرّر على إثرها مسؤولو شركة Google مدى ملائمتي لمنصب مدير التسويق بالعالم العربي.
أخبرته أنني هنا بغرض إجراء مقابلة للتوظيف وأنني سأمكث في لندن ثلاثة أيام فقط، سألني عن الشركة فأخبرته بحماس بدا واضحا من صوتي: "Google". ردد موظف الجوازات اسم الشركة مرة أخرى باهتمام، ثم ابتسم قائلا: هذا هو محرك البحث المفضل لدي وقرأت كثيرا عن جو العمل الرائع في الشركة. سألني عن الوظيفة التي تقدمت لها وبعد استماعه لإجابتي أبدى اندهاشه أن الوظيفة هي مدير إقليمي للتسويق في المنطقة العربية، قائلا بأبويّة رجل في الخمسينيات من عمره: "أنت مواليد ١٩٨٠ لا زلت صغيرا على مهنة مدير إقليمي! لم أعلم أن Google تقوم بتوظيف الشباب الصغير كمدراء" فقلت له مبتسما: "العالم يتغير".
ركبت مترو لندن الشهير والذي يربط المدينة من شرقها لغربها ومن شمالها لجنوبها وقررت النزول قبل محطتين من المنطقة التي بها الفندق الذي سأقطن فيه بوسط المدينة حتى أسير على الأقدام لبضع دقائق أتعرف فيها على معالم المدينة المجاورة لفندقي، وضعت في أذني سماعات الهاتف لأستمع إلى مجموعة من الموسيقى المفضلة لدي. الطقس في لندن كان على غير المعتاد ربيعيا رائعا، فشهر يونيو هو أحد الشهور القليلة التي يرى فيها البريطانيون الشمس مما جعل مُتعَة السير على الأقدام فوق الأرض تفوق الانتقال السريع تحتها.
شوارع لندن مكتظة بالبشر من كل حلم ولون فالمدينة يقطن بها زائرون أو مواطنون تعود أصولهم إلى أكثر من 200 حلمية عالمية. أدركوا مبكرا أهمية التنوع وأثره في قوة المجتمع فرحّبوا بضيوفهم القادمين من كل حدث وصوب. الغالبية العظمى من هؤلاء السائرين على الأقدام يتحركون بخطوات سريعة شبه عسكرية ملفتة للنظر، ليس من المعقول أن يكون كل هؤلاء متأخرون عن موعد ما! يبدو أن السرعة في لندن أسلوب حياة.
كانت مشاعر السعادة الممزوجة بالقلق والخوف من الهزيمة مرة أخرى تغمرني، كيف لا فأنا على بُعد خطوات قليلة من إمكانية تحقيق إنجاز طالما حلمت به لسنوات طويلة. أسترجع بذاكرتي أثناء رحلتي القصيرة من المترو إلى الفندق كل ما حدث في المقابلات السابقة، وأذكر نفسي بأهمية التركيز وإظهار الاتزان أثناء المقابلات المصيرية القادمة وتلافي الأخطاء التي وقعت فيها سابقا. كانت تلك هي المرة الرابعة التي أتقدم فيها لوظيفة في شركة Google، ولكن هذه المرة كان الأمر مختلفا، فقد اجتزت كل المقابلات الهاتفية بنجاح وأصبحت في المرحلة النهائية. في كل مرة سابقة رفضت الشركة قبولي موظفا لديها كان السبب الرئيسي هو أن الخبرة المطلوبة في الوظيفة لا تُناسب خبرتي العملية. كنت أقول لزوجتي بلغة المزاح الممزوج بالجد: لن أتوقف عن محاولة العمل في Google إلى أن أحصل على عرض وظيفة منهم ثم يكون لي القرار في قبوله أو رفضه. الأمر كان أكبر من مجرد تقدم شخص لوظيفة في شركة، كان الأمر برمته تحديا للذات وعدم الاستسلام وقبول الهزيمة.
خلال السنوات الثلاث (من ٢٠٠٥ إلى ٢٠٠٨) منذ محاولتي الأولى للالتحاق بالشركة تغيّرت حياتي كثيرا. إسراء الآن في أول سنوات دراستها وبدا ظاهرا اهتمامها بالرسم ونمو عقلها سريعا حيث أنها كانت تبهرني كلما تحدثت معها، فالأب دائما هو أكثر الأشخاص عدم رغبة في تصديق أن أبناءه الصغار يكبرون. زوجتي في الشهور الأخيرة للحمل في انتظار مولودنا الثاني والذي اتفقنا على تسميته آدم. أما على المستوى العملي فقد انتقلت في نهاية ٢٠٠٥ من عملي في شركة جواب لتقنيات البريد الإلكتروني إلى العمل في المجموعة الوطنية للتقنية مديرا تنفيذيا مهمّتي الأساسية هي إنشاء شركة جديدة في المجموعة تُطلق ما هو الآن واحدا من أكبر المواقع الاقتصادية العربية على شبكة الإنترنت (www.mubasher.info)،
كانت التجربة مثمرة جدا بالنسبة لي، فقد انتقلت من جواب -الشركة الصغيرة التي كنت فيها أدير عددا محدودا من الموظفين لا يتجاوز الثمانية في قسم التسويق والمبيعات الذي كنت مسؤولا عنه، إلى وظيفة مدير تنفيذي لشركة ساهمت في إنشائها وكبرت معها حيث أصبحت خلال سنوات قليلة مؤسسة ناجحة بها أكثر من 120 موظفا ويزور موقعها الإلكتروني أكثر من مليون زائر من العالم العربي شهريا من المهتمين بعالم الاقتصاد وأسواق المال.
كما أنني بفضل من الله استطعت اجتياز أحد التحديات الصعبة التي قررت خوضها وكان لتلك التجربة أشد التأثير عليّ لاحقا وسببا رئيسيا من أسباب قبولي في العمل بشركة Google، وهي انتهائي من دراسة ماجستير إدارة الأعمال في الجامعة الأمريكية بتقدير 4.0 وهو أعلى تقدير في نظام التعليم الأمريكي.
حينما تقدمت بطلب الالتحاق للماجستير في الجامعة الأمريكية استبعد موظفو الجامعة إمكانية قبولي. فأحد الشروط الأساسية هو أن يكون المتقدم حاصلا على تقدير عام لا يقل بأي حال من الأحوال عن "جيد" في دراسة البكالريوس. بينما كان تقديري العام في التخرج من كلية الهندسة بجامعة القاهرة هو "مقبول" بنسبة 64% وذلك بالرغم من حصولي على تقدير جيد جدا في السنتين الثانية والرابعة واجتيازي مشروع التخرج بامتياز. حاولت وقتها أن أشرح لهم أن السبب الرئيسي في حصولي على هذا التقدير كان لظروف شخصية لا علاقة لها بقدراتي في التحصيل العلمي أو مدى اهتمامي بالدراسة. ولكن كل هذه المحاولات لم تجد آذانا صاغية وكان المسؤولون في الجامعة يميلون لرفضي بالرغم من استعدادي الكامل لدفع مصاريف الجامعة الباهظة والتي كانت تساوي ما يقرب من 80% من الأموال التي ادخرتها منذ بدأت حياتي العملية.
أثناء دراستي البكالريوس بكلية الهندسة في جامعة القاهرة اتخذت قرارين أثناء دراستي تسببا في تأجيلي لعامين من الدراسة (السنة الأولى والثالثة) وكان هذا يعني أن أحصل على تقدير "مقبول" في السنتين بغض النظر عن درجاتي الحقيقية حيث أنني لم أكن أعتذر رسميا للجامعة اعتقادا مني حينها بعدم أهمية الدرجات والتقدير -وكنت مخطئا في عدم الاعتذار الرسمي حتى لا أخسر تقديري-، المرة الأولى كانت في السنة الأولى بعد إعدادي هندسة حين قررت أنني لن أستمر في قسم هندسة الكهرباء بعد عدة أسابيع من حضور المحاضرات حيث أنني لم أجد معنى للاستمرار في مجال لا يستهويني مقابل آخر أعشقه بسبب تقديري في السنة الإعدادية. قررت حينها خوض مغامرة غير مأمونة العواقب رفضها كل من كانوا حولي من الأسرة والأصدقاء، قلم أدخل الامتحانات ثم قدمت التماسا لعميد الكلية لتحويلي لقسم هندسة الكمبيوتر وبالرغم من تأكيد البعض أنه لن يتم قبول الالتماس خاصة وأنه لا "واسطة" لي في الجامعة، إلا أن الله سبحانه وتعالى شاء أن يتم يقبل العميد التماسي الذي وضحت فيه حبي لدراسة الكمبيوتر ورغبتي الشديدة في الالتحاق بالقسم. أما التأجيل الثاني للدراسة فكان لأنني سافرت للزواج ولم أعد سوى بعد انتهاء الفصل الدراسي الأول في الجامعة في السنة الثالثة.
في الزيارة الرابعة للجامعة الأمريكية لمحاولة الالتحاق بالماجستير، قلت للدكتورة المسؤولة عن قبول الطلاب: "سأفعل كل شيء حتى يتم قبولي في الجامعة لديكم. وسأحصل على أعلى درجة يمكن أن يحصل عليها أي طالب في هذه الجامعة أثناء دراسته الماجستير فلن أفقد ولو 0.1 درجة من الـ GPA في أي مادة من المواد الـ 16 التي يتم تدريسها في الماجستير. قدّمي لي العون وأعدك أن ما أقوله الآن سيتحقق".
ابتَسَمت الدكتورة، وقالت لي بنبرة دبلوماسية: "خير إن شاء الله".
لمتابعة الجزء الاول من القصة :
انا وجوجل - الجزء الاول مقابلة وائل غنيم مع جوجل